جفاف "وان" التركية يقرع جرس الإنذار.. تراجع مائي يسبب خسائر بيئية واقتصادية

جفاف "وان" التركية يقرع جرس الإنذار.. تراجع مائي يسبب خسائر بيئية واقتصادية
الجفاف يهاجم بحيرة وان التركية

على سواحل بحيرة وان، أكبر مسطحات المياه في تركيا، صار خط الماء يتراجع عن بيوت الصيادين وذكريات الزوار، ينحسر الوميض الأزرق تاركاً طيناً متشققاً ومساحات جافة كانت حتى وقت قريب موطناً للطيور المهاجرة ومصدر رزق للآلاف.

هذا الجفاف ليس لحظة عابرة، بل حلقة جديدة في سلسلة تغيرات مناخية وبشرية تضغط على حوض مائي حيوي لشرق الأناضول بأكمله، وقد نقلت مصادر علمية ومحلية هذا الصيف انخفاضاً ملموساً في التساقطات وارتفاعاً في التبخر، ما عجّل بانكماش البحيرة وجفاف بحيرات محيطة أصغر حجماً.

تفيد المعطيات الأكاديمية والمحلية في تركيا بأن حوض بحيرة وان تلقى هذا العام كميات أمطار أقل بنحو مئة مليمتر مقارنة بالعام الماضي، وهي فجوة كبيرة في مناخ جاف أصلاً، ومع امتداد موسم الجفاف من يونيو حتى سبتمبر، جفّت بحيرتا آق غول وتوز غولو في قضاء أوز ألب، وانخفض تدفق أنهار وينابيع تغذي وان، بينما زادت حرارة الصيف معدلات التبخر، فازدادت خسائر السطح المائي، خصوصاً في المناطق الضحلة ومصبات الجداول. 

بحيرة تشكّل هوية وموارد

بحيرة وان ليست مجرد منظر طبيعي، بل نظام بيئي واجتماعي واقتصادي متشابك، فهي أكبر بحيرة في تركيا ومساحتها تقارب 3755 كيلومتراً مربعاً، وقد شهدت في السنوات الأخيرة تقلبات حادة بين سنوات مطيرة وأخرى شديدة الجفاف، ففي 2023 وثّقت تقارير محلية انتشار طين ملوث ونفوق طيور في مواقع مكشوفة مع تراجع المنسوب، بما عكس خطورة الضغط البيئي عند انخفاض المياه. 

تضم أهوار وبحيرات حوض وان ما يقارب خمس أهوار تركيا، ويُرصد فيه أكثر من 215 فصيلة من الطيور، وقد أفاد مراقبو الطيور هذا الربيع بأن مواسم التكاثر تحسنت مؤقتاً مع أمطار الربيع، لكن موجة الجفاف اللاحقة عاودت كشف هشاشة الموائل. بالنسبة للسمك، يشكل سمك السردين اللؤلؤي في البحيرة مورد رزق رئيسي، وهو نوع متكّيف مع ملوحة وان يهاجر سنوياً عكس التيار إلى مياه عذبة للتكاثر، وأي نقص في جريان الجداول يهدد دورة حياته ويضغط على المصايد المحلية رغم تنظيم مواسم الحظر.

الأسباب المتداخلة

يتصدر المناخ القائم على أمطار شتوية محدودة وحرارة صيفية مرتفعة قائمة العوامل، لكن القصة لا تكتمل دون ذكر استهلاك المياه وتوسع الزراعة في بعض الأحواض المحيطة وتزايد الطلب الحضري، فحين يقل المطر وتتأخر الثلوج أو تذوب بسرعة، تقل التغذية الطبيعية للأنهار، وهذا النمط ليس خاصاً بوان وحدها، فتركيا الأوسع شهدت في مواسم أخيرة نفوقاً لطيور في بحيرات داخلية بسبب الجفاف وسوء إدارة الموارد، ما يربط محنة وان بمشهد وطني أوسع من الضغط المائي وتراجع الأهوار. 

على الضفاف، تتغير تفاصيل الحياة اليومية، فالصيادون يقطعون مسافات أطول بحثاً عن عمق مناسب، وتكاليف الوقود ترتفع، ومواسم الصيد تتقلّب مع حرارة المياه ومسارات السمك، وفي القرى، يتأثر مربو الماشية والمزارعون بانحسار موارد الشرب والري، كما تتلقى البلدية شكاوى متزايدة بشأن تراجع جودة المياه الساحلية والروائح في مناطق انكشاف الطين، وتتحرك السياحة البيئية صعوداً وهبوطاً مع حالة الشواطئ وقدرة الأهوار على استقبال الطيور، وهي موارد دخل حساسة لأي تغير في المنسوب.

حق الإنسان في الماء

تتعامل منظمات الأمم المتحدة مع الندرة المائية باعتبارها أزمة تنموية وإنسانية، وتشير أحدث خلاصات أممية إلى أن كلفة الجفاف عالمياً تتجاوز 307 مليارات دولار سنوياً، وأن ثلاثة أرباع سكان العالم قد يتأثرون بآثاره بحلول منتصف القرن إذا لم تتوسع استثمارات الحلول الطبيعية وإدارة الأرض والمياه، من جهة معيارية، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 2010 بالحق في مياه شرب مأمونة وخدمات صرف صحي كحق من حقوق الإنسان، وهو إطار حقوقي يستدعي سياسات وقائية وتشاركية وعدم تمييز في الوصول للخدمات، وهذه المرجعيات تضع أزمة وان في سياق التزام أوسع بتأمين المياه والخدمات البيئية للأسر الريفية والحضرية على السواء. 

وتتابع جامعات ومراكز أبحاث في وان التغيرات المناخية وحركة المنسوب ونوعية المياه، وتصدر تحذيرات دورية بشأن مخاطر التبخر وتذبذب الأمطار، كما تنشط منظمات حماية الطبيعة التركية في الدعوة إلى صون الأهوار وتقليص الضغوط الزراعية في الأحواض المغذية، وتوسيع مناطق الحماية للرزم الأكثر هشاشة.

 دولياً، ترى منظمات حقوق الطفل أن ندرة المياه تضرب الفئات الأضعف أولاً، وخاصة الأطفال في المناطق الريفية، وتنعكس على التعليم والصحة والأمن الغذائي، ما يستدعي خطط حماية اجتماعية مرنة وتمويلاً مستداماً للبنية الأساسية الخضراء. 

أثر قانوني وسياساتي

تؤكد معايير القانون الدولي للبيئة واتفاقيات حماية الأهوار أن إدارة الموارد المائية مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، مع واجب الحماية والحفاظ على الاستخدام الرشيد، وفي ضوء الاعتراف الأممي بالحق في المياه والصرف الصحي، تصبح سياسات التخطيط العمراني وتخصيص المياه وحماية الأهوار جزءاً من واجب إعمال الحقوق تدريجياً، عبر الشفافية والمساءلة وإشراك المجتمعات المحلية، كما أن موجات الجفاف تدفع باتجاه اعتماد ممارسات زراعية أقل استهلاكاً للماء، ومراقبة صارمة لحفر الآبار، وإحياء نظم حصاد مياه الأمطار والتخزين الطبيعي في الأحواض العليا.

يوصي خبراء المياه بأن تبدأ الحماية من المنبع من خلال إعادة تأهيل الغطاء النباتي في أحواض الجداول التي تغذي البحيرة لتقليل الجريان السطحي السريع وتحسين تسرب المياه إلى المخزون الجوفي، والتوسع في الحلول الطبيعية مثل استزراع الأحزمة الخضراء حول الأهوار لتقليل التبخر والرياح، وعلى المستوى البلدي، تعني الإدارة الذكية للشواطئ إزالة مصادر التلوث، وتحديث شبكات الصرف، ومحطات لمعالجة المياه تحمي المناطق الساحلية من الطين الملوث عند الجفاف. 

وفي قطاع الصيد، يوازي ضبط المواسم وتشديد مكافحة الصيد غير المشروع دعماً لبدائل معيشية في الأشهر الحرجة، أما في الزراعة، فتبقى الأولوية لتحول تدريجي نحو محاصيل أقل عطشاً وأنظمة ري دقيقة، وربط الدعم الزراعي بمؤشرات الكفاءة المائية، وفي السياحة البيئية، يتطلب الحفاظ على مسارات الطيور واستراحاتها توفير مستويات ماء دنيا في الأهوار عبر حواجز تنظيمية مؤقتة عند الحاجة، مع مراقبة علمية لمعدلات النفوق ونوعية الموائل. 

إذا تكررت سنوات العجز المطري واشتدت موجات الحر، فسيزداد انكشاف الشواطئ وتتعرض المناطق الضحلة لزحف الجفاف، وهو ما سيضغط على الطيور المائية وعلى دورة تكاثر السمك، ويرفع كلفة الوصول إلى مواقع الصيد، ويقلص عوائد السياحة الشاطئية، وعلى العكس، فإن إدارة الطلب على الماء مع سنوات مطيرة متقطعة قد تسمح باستعادة جزئية للموائل، لكن من دون إصلاحات هيكلية لن تتبدد المخاطر. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية